قيم هذا الموضوع:
المصدر:
جريدة العرب - لندن
الكاتب:
علاءالدين العالم
من مخيم اليرموك بدمشق إلى جنيف، يحمل الفنان الفلسطيني هاني عباس ريشته وإحساسه المرهف، ناقلا يوميات الألم السوري إلى رسومات كاريكاتيرية ترصد اللحظة وتعكس مرارتها، فكانت أعماله بذلك كما وصفها رسام الكاريكاتير العالمي باتريك شابات “عملا سياسيا تكون له عواقب تؤثر على حياة الفنان، وتدفعه إلى مغادرة وطنه، كالرسوم السياسية التي يرسمها هاني عباس من سوريا”؛ "العرب" التقت بعباس لمحاورته حول عديد المسائل الفنية.
ساهمت الانتفاضات العربية في إثارة الفن الشبابي، ودفعت به إلى المقدمة بعدما أرهقته بيروقراطية الأنظمة الاستبدادية لعقود مضت. كفنان شاب، هل يرى هاني عباس أن الكاريكاتير حاضر بين هذه الفنون، وعن هذا الأمر يقول عباس: “ليست الثورات العربية هي الوحيدة التي ألقت الحجر في مستنقع الركود والتابوهات التي كانت مفروضة، بل أيضاً ثورة الاتصالات وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي التي وضعت الفنان وجها لوجه أمام المتلقي، فصار لزاما عليه أن يقول كلمته.
في هذا التزامن الذي حصل استطاعت الفنون البصرية أن تأخذ مكانا مهمّا في الضخ الإعلامي الهائل الذي تتيحه ثورة الاتصالات، ما ساهم في تصدير الكثير من الطاقات المغمورة إلى الواجهة، تلك الطاقات التي لم تكن في وقت سابق تجد منطلَقا لأسباب قمعية واستبدادية غبية ومرعبة في عالمنا العربي.
كما أن الكاريكاتير من أكثر الفنون البصرية حساسية بما يحمله من فكر ونقد ومواجهة، ولا سيما ضيق مجال المواربة فيه. بعد أن عشت التجربة خلال السنوات الثلاث الأخيرة في سوريا، أستطيع القول إنني بدأت رسم الكاريكاتير منذ ثلاث سنوات فقط ومسحت اثنتي عشرة سنة سابقة من أرشيفي”.
ما أزال في مرحلة البحث عن الحس الإنساني في العلاقات البشرية، وإحساسي باللوحة هو ما يدفعني إلى رسمها
الموت أو السجن
يقول هاني عباس: “خلال هذه التجربة وجدت نفسي قد طوّرت شكلا جديدا من الكاريكاتير السياسي العميق في معناه والحادّ في رسالته - رغم بساطته- هذا الشكل الذي بدأ يعطي هوية فنية لرسومي. الفن هو مشاعر معيشة ومن لم يعش في قلب الأحداث لا يستطيع تجسيدها فنيا بشكل حقيقي. فرق كبير بين أن ترسم وأنت تجلس في مكان مريح وآمن، وبين أن ترسم تحت القصف والحصار والمتابعة، إن أخطأتك القذيفة فإن رسمك سيأخذك إلى معتقل أو يودي بحياتك”.
بسبب ارتباطه بالصحف، أُسندت لفن الكاريكاتير وظيفة إعلامية ذات خلفية سياسية، ما هي الوظيفة التي تؤدّيها لوحات هاني عباس، وهل تقوم على خلفية سياسية ما؟ هنا يؤكد عباس أن فن الكاريكاتير هو موقف وفكرة ورسالة، ويقول: “يمكن للكاريكاتير أن يدعم مشروعا سياسيا يتوافق مع نفس فكرة الطرح.
أي أنه من المفترض أن يكون الرسم الكاريكاتيري معزولا عن التوجه السياسي للصحيفة، يجب أن يكون مطابقا لوجهة نظر وفكرة الفنان، بعدها يبقى للجريدة أن تنشره أو لا؛ ذلك يتبع رؤيتها السياسية وتمويلها”.
ويضيف: “المصيبة هي أن يرسم الفنان عكس وجهة نظره لأنه متعاقد مع جريدة ما. بالنسبة إلى رسومي فأنا لا أزال في مرحلة التجريب والبحث عن الحسّ الإنساني العميق في العلاقات البشرية، إحساسي باللوحة هو ما يدفعني لرسمها، أقف مع الإنسان الضحية الذي يبحث عن حريته ويناضل من أجلها في وجه المستبد والقاتل مبتعدا عن المعالجات السطحية والتهريج.
الورقة التي أرسم عليها تمتدّ حدودها من أول معتقل إلى آخر مقبرة جماعية مرورا بصرخات الملايين. التوجه السياسي لا يعنيني لا من قريب ولا من بعيد. أنا لا أثق بالسياسة وأكرهها”.
يلتصق فن الكاريكاتير باللحظة الراهنة، من حيث محاكاتها والتعليق عليها. كفنان كاريكاتير وهذا ما تفسره رسومات بعض الفنانين اليوم المبتعدة عن الواقعية الهاربة من طرح محاكمة أصيلة لما يحدث في سوريا اليوم، يقول عباس في هذا الشأن: “هذا الأمر يحتمل عدة أوجه تتعلق بعقلية وخلفية الفنان. فمن خلال تجربة الثورات العربية برزت هذه الظاهرة بشكل كبير بحيث وقف بعض الفنانين ضدّ إرادة الشعب. البعض قدراته العقلية ترى أن ما يقوم به ويرسمه هو الصواب مقتنعا بذلك.
والبعض الآخر يتبع المصالح السياسية والإغراءات المالية، ضاربا كل المعايير الأخلاقية بعرض الحائط. الشيء الأكثر تفاوتا هنا هو الإحساس، فمن ليس لديه إحساس بشري لا أمل منه ولن يستطيع تقديم فن أو فكر حقيقي”.
تصحب النشر في أي صحيفة خطوط رقابية ما. انطلاقا من عمل عباس في العديد من الصحف، ألا تؤدّي هذه الرقابة إلى تفاوت بين مستوى أعماله المستقلة حيث لا خطوط رقابية أمامه وبين مستوى أعمالك المنشورة في الصحف، يقول: “بالتأكيد هذه الخطوط موجودة ومزعجة في كل المنابر الإعلامية. وكانت سببا لاستقالتي في أكثر من صحيفة.
فأنا لا أبدأ من موقف الجريدة في الرسم، بل أبدأ من قناعاتي بفكرتي. لو أردت أن أرسم كما تريد الجريدة سأواجه الكثير من المشكلات الفكرية وسينعكس ذلك على مستوى الرسم بالتأكيد. كان هذا يحدث قبل وجود الفيسبوك، أما الآن فإني أنشر ما أريد وما يخطر على بالي بسهولة وسرعة دون رقيب إلا المتلقي الذي سيصله الرسم في ثوان ويعلق عليه”.
اللوحة ترسم نفسها
في أعماله يذهب عباس تجاه “الدزاين والفوتوشوب” مبتعدا عن قلم الرصاص، هذا إضافة إلى تدخل الكمبيوتر الذي قد ينقص من القيمة الفنية للعمل، في هذا الشأن يقول هاني عباس: “الفكرة هي التي تفرض على الرسام الأدوات التي ستنفذ بها، مثلا هنالك بعض الأفكار التي لا تتحمل اللون الإضافي. وينسحب الأمر كذلك على الخطوط والإخراج الأخير للرسم. لذلك أرى أن تخرج اللوحة كما تحسّ بها دون أي اختيار مسبق للأدوات، دع اللوحة ترسم نفسها بيديك”.
بعد النزوح من مخيم اليرموك ذهب إلى لبنان ومنها إلى جنيف، فكيف تمكن عباس من التقاط هذه الحساسية على الرغم من بعده عن الأرض التي يجري عليها الحدث، يقول عباس: “في البداية كنت مصرا على البقاء والرسم في مخيم اليرموك، أرسم وأنشر وأنقل الحدث على مدار الساعة رغم كل القصف والقنص والدمار والرعب، الوضع السيئ الذي كان يستمر بشكل أفظع حتى الآن. رغم الخطر الذي يتعرض له إيّ إعلامي يصرّ على قول الحقيقة في هذه الظروف، بقيت على هذه الحالة عدة أشهر، بعدها أصرّ عليّ الكثير من الأصدقاء بأن أجد سبيلا للخروج وأواصل عملي في ظروف تضمن استمرار وصول صوتي.